خلال الأسابيع الماضية، شهدنا بأم أعيننا كيف تخلّقت أسطورة. كيف ولدت، وكيف نمت وترسخت، وصارت أسطورة. شهدنا هذا بالعرض الحي والمباشر. بالطبع، لا يخفى عليكم أننا نتحدث عن أسطورة محمد عساف. الآن محمد عساف أسطورة وليس شخصاً. ونحن نتحدث عن الأسطورة:
- أسطورة الشخص الذي لم ينتبه له أحد، إلا بعد أن انتبه له الآخرون. الحجر الذي رفضه البناؤون في بلده، ثم صار حجر الزاوية، حين امسك به أحد من الخارج.
- أسطورة الإصرار: (نط عالحيط يمه). أسطورة الأم التي تدفع ابنها للقفز فوق الحائط. مثل أم عصافير الدوري التي تدفع أبناءها للقفز من العش، كي يختبروا أجنحتهم.
قفزة حائط هي التي تصنع أبطال الأساطير. يكون كل شيء مغلقاً، وفجأة يقفز البطل عن الحائط، فينفتح بستان الدنيا أمامه. قفزة الحائط هي الجملة السحرية التي تفتح الأبواب. إنها جملة: افتح يا سمسم!
- أسطورة الصدفة، حيث يتقدم أحد ما ليعطي تذكرته للبطل. البطل بلا تذكرة. يقف حائراً، فيتقدم شخص ما فجأة ويعطيه تذكرته، يعطيه سيفه الذي يحارب به. من دون هذه التذكرة- الصدفة. كان سيتبدد كل شيء. الصدفة تلعب دورا حاسماً في بناء الأسطورة.
- ثم الأسطورة الوطنية: الكوفية. البطل يطوق نفسه بالكوفية، ويغني: علّي الكوفية علّي. وتعلو الكوفية. كوفية عرفات تستعيد نفسها من جديد. المسرح تغير، لكن الكوفية هي ذاتها.
الأسطورة لا تولد في لحظة واحدة. لا تنبت مثل الفطر بعد الصاعقة، بل تولد صغيرة، ثم تحبو، ثم تفزّ على قدميها وتمشي. وهكذا ولدت أسطورة محمد عساف خلال شهور. أساطير الماضي ربما احتاجت إلى سنوات، او إلى قرون حتى، كي تمشي على قدميها. لكن مع الفضائيات تم اختصار الوقت. الأسطورة تفز على قدميها خلال شهور فقط.
لكن الفضائيات لا تخلق الأساطير. الفضائيات تمهد لها. الأساطير يخلقها الناس. تخلقها المجتمعات. تكون بحاجة إليها فتخلقها. لا تعيش المجتمعات من دون أساطير. مجتمع بلا أساطير مجتمع ميت. والمجتمع الفلسطيني كان بحاجة إلى أسطورة. مخزونه من الأساطير التي كانت تساعده على العيش والصمود تبدد. أسطورة الفدائي، فدائي فتح والمنظمة، تحطمت. لم يعد لها من وجود. أسطورة المجاهد الانتحاري الحمساوي تبددت سريعاً.
من سنوات كان يتشكل فراغ أساطير عندنا. وفراغ الأساطير لا يستمر. مثل فراغ الحيز. فراغ الحيز يملأ بالرياح. الطبيعة ضد الفراغ. المجتمع ضد الفراغ. الفراغ لا يحتمل. لذا كان لا بد لأسطورة ما أن تأتي. وقد شهدنا أساطير صغيرة تولد هنا وهناك. لكن هذا لم يكن كافياً. كان لا بد من أسطورة أكبر، وأعمق. وقد ظهرت الأسطورة، ومشت على قدميها أمامنا.
إنها أسطورة الصوت. تحطمت أساطير المقاومة. فقدت ذاتها، فاستبدلت بأسطورة تطلع من خشبة المسرح، او من شاشة الفضائيات. وهي أسطورة تدرك ذاتها. تدرك أن عليها أن تلم الماضي، أن تستوعب أساطيره كي تعيش. لذا فهي لا تقطع مع الماضي، بل تستعيد أجزاء منه. تستعيد الكوفية، كوفية عرفات، من زمن الأساطير القديمة. ترتديها فوق المسرح. أساطير المجتمعات لا تلغي بعضها، بل تحتوي بعضها. تمتص بعضها. تهضم بعضها.
ليس محمد عساف من خلق الأسطورة. محمد عساف أداتها. الناس هم من خلقوا الأسطورة. إنها أسطورتهم. أسطورة المهملين، المنسيين، الذين يبحثون عن من يوصل صوتهم، فيصل محمد عساف، ويصير صوت من لا صوت لهم. صوته مثل رصاصة فتح الأولى عام 1965. فتلك الرصاصة كانت- أسطورياً- صوتاً بدد الصمت، صمت العالم، وظلم العالم. كانت انفجاراً ضد الصمت. ومحمد عساف ليس إلا صوتاً يهز الصمت. كتب أحدهم على الفيسبوك: (مجموعة محمد عساف تفجر مسرح أراب أيدول). الصوت تفجير المسرح، مثلما كانت الرصاصة الأولى تفجيراً للمسرح الدولي، ومثلما كان خطف الطائرات في عام 1970 تفجيراً للجو، للفضاء.
الأسطورة تولد لأن هناك فراغاً يكون بانتظار مولدها. فراغاً يحثها على القدوم. يفتح لها الباب. ذلك لأن الفراغ يجب أن يملأ. من دون ملئه سيكون كل شيء تعيسا وقابلا للتشظي.
الأسطورة تجرّ جراً. تسحب سحب. تسكب سكباً، بأيدي الناس. وحين يأتي أوانها، يجب أن تحضر. وهي تحضر بالقوة إذا لزم الأمر.
وقد حضر الصوت. حلّ الصوت. دوّى. وأعلن حضور الأسطورة.
[عن "معازف"]